الأحد، 4 نوفمبر 2012

(2) التعامل مع أهل قريش وثقيف: (م) تابع (2) ملاحظات تؤخذ في الاعتبار: جني الثمار ... الربيع العربي


(م) تابع (2) ملاحظات تؤخذ في الاعتبار:
حادي عشر: سيرة الرسول -  صلى الله عليه وسلم –
 (2) التعامل مع أهل قريش وثقيف:
أولا: نماذج من إيذاء قريش للنبي – صلى الله عليه وسلم -
في البدء إخواني وبني جلدتي تعالوا بنا نستعرض بعض أنواع الأذى التي تعرض لها الصادق الأمين – صلى الله عليه وسلم – على يد كفار قريش،لنعرف كم لاقى – صلى الله عليه وسلم – من أذى في سبيل نشر الدعوة، ونخلص إلى كم سماحته ورحمته وحلمه – صلى الله عليه وسلم – حينما تمكن رقاب كفار قريش فماذا صنع بهم؟! فلقد احتسى حبيب الرحمن – صلى الله عليه وسلم – كؤوسا من الظلم وتجرع من أجلنا ألوانا من النكال والإيلام ودروبا من السخرية،والإهانة من أجل قهر الوثنية والنهوض بالرسالة الإسلامية السامية
فهيا بنا الآن نستعرض بعضا من الإيلام التي تعرض لها الصادق الأمين محمد – صلى الله عليه وسلم –
(أ) نعتهم للرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – بالسحر والكهانة:
- نعته– صلى الله عليه وسلم –  بالكذب والشعر والسحر قال تعالى {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ} سورة ص: 4
 رواه البيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنه- : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا .
قال: لم ؟! قال: ليعطوك فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله.
 قال: قد علمت أني من أكثرها مالا؟!  قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر لها أو أنك كاره له.  قال: وماذا أقول؟! فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيدته مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.
 قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه؟! قال: فدعني حتى أفكر فيه، فلما فكر قال هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره، فنزلت "ذرني ومن خلقت وحيدا" المدثر .
- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:  قال أبو جهل والملأ من قريش لقد انتشر علينا أمر محمد فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره.  فقال عتبة:  لقد سمعت بقول السحرة والكهانة والشعر وعلمت من ذلك علما، وما يخفى علي إن كان كذلك ،فأتاه فلما أتاه قال له عتبة:  يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله فلم يجبه، قال: فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رأسنا ما بقيت، وإن كان بدا لك في الباءة زوجناك عشرة نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك،  ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت فلما فرغ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تنزيل من الرحمن الرحيم " حتى بلغ "أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود" سورة فصلت .
 فأمسك عتبة على فمه وناشده الرحم أن يكف عنه ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم ،فقال أبو جهل: يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة انطلقوا بنا إليه فأتوه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حسبنا إلا أنك صبوت فإن كانت بك حاجة جمعنا لك ما يعنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمد أبدا وقال لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته فقص عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة قرأ "بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون* بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون" حتى بلغ "فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود" فأمسكت فيه وناشدته الرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب
(ب) الجيران
- قال ابن إسحاق‏:‏ كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته أبا لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدى بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلى ـ وكانوا جيرانه ـ لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص، فكان أحدهم يطرح عليه صلى الله عليه وسلم رحم الشاة وهو يصلى، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرًا ليستتر به منهم إذا صلى فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود، فيقف به على بابه، ثم يقول‏:‏ ‏(‏يا بني عبد مناف، أي جوار هذا‏؟‏‏)‏ ثم يلقيه في الطريق‏.‏ 
- روى البخاري في " صحيحه " عن عُرْوَةَ بْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: " أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ "، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَأَخَذَ بِمَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ، وَدَفَعَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ" أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ "؟ ".
- روى البخاري ومسلم في "صحيحهما " عن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: " أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَا جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ "، فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ، فَجَاءَ بِهِ فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَأَنَا أَنْظُرُ لَا أُغْنِي شَيْئًا، لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ، قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ، وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ.
ثُمَّ قَالَ" اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ "، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ، قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ، ثُمَّ سَمَّى" اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ "، وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْ، قَالَ: " فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ".
(ت ) التشويش والتشويه والوصف بالعمالة
- قالوا عنه– صلى الله عليه وسلم –  أنه عميل لدوله أجنبية لرجلا يدعى الرحمن باليمامة يعمل لحسابه لأنه دعاهم لعبادة الله (الرحمن) وإنا لا نؤمن بالرحمن أبدا" كما ذكر القرآن كنوع من التشويش
-  أرسلوا إلى بلاد الفرس واليمن النضر بن الحارث ليتعلم كل قصص ملوكهم المشوقة ويسردها عندما يقوم – صلى الله عليه وسلم – بتلاوة القرآن فلا يتمكن – صلى الله عليه وسلم – من تكملة تلاوته فكان إذا جلس الرسول صلى الله عليه وسلم مجلساً للناس يحدثهم ويذكرهم ما أصاب من قبلهم، قال النضر : هلموا يا معشر قريش، فإني أحسن مثل هذا الحديث، فقام يحدثهم عن فارس ، وعن الروم، وعن أساطير وأخبار عجائز الجاهلية فيتضاحكون.
يحدثهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن فرعون وعاد وثمود، فيأخذ هو كرسياً ويجلس بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم، فيحدثهم عن عجائز الجاهلية، فلانة، وفلانة، فيضحكون استهزاء.
- كان – صلى الله عليه وسلم – إذا مر بأي طريق من طرقات مكة يعدو الكفار من حوله ويقال عليه أنه مجنون وعندما كانت تأتى قافلة للحج أو تجاره فيحذروهم ويقولوا لهم "إحذرواغلا م قريش لا يفتنكم بجنونه". 
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم قيل نعم.  فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه.
 فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ليطأ على رقبته فما فاجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل: له ما لك، قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار.
 فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:  " لو دنا لاختطفته الملائكة عضوا عضوا , أخرجه مسلم ".
- وذكر ابن إسحاق عن ابن عباس أن أبا جهل قال: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر، فإذا سجد فضخت به رأسه، فليصنع بعد ذلك  بنو عبد منا ف ما بدا لهم، فلما أصبح أبو جهل أخذا الحجر وجلس وأتى النبي-  صلى الله عليه وسلم - فقام يصلي بين الركنين الأسود واليماني، وكان يصلي إلى الشام وجلست قريش في أنديتها ينظرون فلما سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع مرعوبا منتقعا لونه قد يبست يداه على حجره حتى قذف به من يده، وقامت رجالات قريش فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟! فقال:  قمت إليه لأفعل ما قلت لكم فلنا دنوت منه عرض لي فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط فهم أن يأكلني.
(ث ) الأهل:
- عندما كان – صلى الله عليه وسلم –يدعوهم للإسلام فما كان من عمه أبو لهب إلا أن يسير خلفه كظله ويقول:لمن يحدثهم دعكم منه إنه مجنون فكانوا يصدقون عمه ويقولون له كيف نصدقك وعمك من أهلك يقول عنك مجنون. فعن ربيعة الدؤلي قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول لا يغرنكم عن دينكم ودين آبائكم قلت من هذا قالوا أبو لهب
قال تعالى: " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ"  [المسد: 1 – 5]
قال ابن إسحاق: فذكر لي أن أم جميل حمالة الحطب حين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فهر من جارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: " يا أبا بكر أين صاحبك؛ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت: مذمماً عصينا، وأمره أبينا، ودينه قلينا "، ثم انصرفت، فقال أبو بكر: " يا رسول الله أما تراها رأتك؟ "، فقال: " ما رأتني؛ لقد أخذ الله ببصرها عني ". " السيرة النبوية " لابن هشام (2/200،201)
 - أتى عتيبة بن أبي لهب يومًا للنبي – صلى الله عليه وسلم – وقال: أنا أكفر بـ {وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَى }(النجم: 1 )وبالذي{دَنَا فَتَدَلَّى} (النجم: 8) ثم تسلط عليه بالأذى وشق قميصه وتفل في وجهه، إلا أن البزاق لم يقع على وجهه الطاهر، فدعا عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال:" اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك"
 فخرج عتيبة في نفر من قريش إلى الشام في مكان يقال له الزرقاء فطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أخي، هو والله آكلي كما دعا محمد عليَّ. فغدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ بأرسه فذبحه.
- لما رأت قريش أن محمدا صلى الله عليه وسلم يعيب آلهتهم ولا ينتهي عن ذلك ورأوا أن عمه أبو طالب يمنعه ويحميه منهم مشوا إلى أبي طالب فكلموه.
 وقالوا إما أن تكفه عن آلهتنا وعن الكلام في ديننا، وإما أن تخلي بيننا وبينه فقال: لهم قولا رفيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا.
ثم بعد ذلك أكثرت قريش من ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحض بعضهم بعضا عليه ومشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا إن لك نسبا وشرفا فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله ما نصبر على شتم آلهتنا وتسفيه أحلامنا حتى تكفه أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.
 ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوته لهم ولم يطب نفسا أن يسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم ولا أن يخذله فدعا محمدا فقال: يا ابن أخي إن قومك قد جاءوا إلي، فقالوا كذا وكذا فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.
 فظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قد بدا لعمه بداء وأنه خاذله ومسلمه فقال: يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك دونه فيه ما تركته ثم استعبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قام فلما ولى.
 ناداه أبو طالب فقال أقبل يا ابن أخي فأقبل إليه فقال: اذهب فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك أبدا .
ثم إن قريشا أتوا أبا طالب فقالوا: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصرته واتخذه ولدا فهو لك وأسلم إلينا ابن أخيك، هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك نقتله فإنما رجل كرجل.
 فقال: بئس والله ما تسومونني أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله ما لا يكون أبدا.
 فقال المطعم بن عدي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وشهدوا على التخلص مما تكره فما أراك تقبل منهم شيئا فقال والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك .
- حينما بدأ الإيمان يتسلل لقلب "عقبة بن أبى معيط" وكان الصديق الحميم لأبو لهب فعلم أبو لهب بهذا التسلل فقال له وجهي من وجهك حرام إن لم تذهب لمحمد وتبصق في وجه ففعلها ليحافظ على صداقة أبو لهب
- وكان عقبة بن أبى معيط عند رؤيته خير قدم مشت على هذا الثرى -  صلى الله عليه وسلم - بطرقات مكة يمسك عباءته ويقوم ببرمها
ويخنق بها النبي -  صلى الله عليه وسلم -  حتى يسقط على الأرض
(ج) الأتباع:
 كل مسلم آمن بالله في بيت من بيوت قريش كان يقاسي سوء العذاب
من: جلد ,ضرب , تجويع حتى كان الواحد منهم يوضع في الرمضاء جائع يقتله الجوع والعطش، فيقول بن عباس – رضي الله عنه - في الذين عُذِبوا
 " كان أحدهم لا يستوي جالسا من شدة الألم ومنه هؤلاء.
= روى ابن ماجه وغيره ـ وحسنه الألباني رحمه الله ـ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: " كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمْ الْمُشْرِكُونَ، وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلَّا بِلَالًا؛ فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: " أَحَدٌ أَحَدٌ
روى البخاري في " صحيحه " عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رضي الله عنه قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: " أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ؟، أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا ؟ "، قَالَ: " كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِه،ِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ".
= روى مسلم في " صحيحه " عن مُصْعَبِ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ نَزَلَتْ فِيهِ آيَاتٌ مِنْ الْقُرْآنِ، قَالَ: " حَلَفَتْ أُمُّ سَعْدٍ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ أَبَدًا حَتَّى يَكْفُرَ بِدِينِهِ، وَلَا تَأْكُلَ، وَلَا تَشْرَبَ، قَالَتْ: " زَعَمْتَ أَنَّ اللَّهَ وَصَّاكَ بِوَالِدَيْكَ وَأَنَا أُمُّكَ وَأَنَا آمُرُكَ بِهَذَا "، قَالَ: مَكَثَتْ ثَلَاثًا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهَا مِنْ الْجَهْدِ، فَقَامَ ابْنٌ لَهَا يُقَالُ لَهُ عُمَارَةُ فَسَقَاهَا، فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَى سَعْدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةَ " وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي " وَفِيهَا: " وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا " ".
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: " قال الطبراني في كتاب " العشرة ": حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أحمد بن أيوب بن راشد، حدثنا مسلمة بن علقمة، عن داود بن أبي هند، أن سعد بن مالك قال: أنزلت في هذه الآية " وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهماالآية.
قال: كنت رجلاً براً بأمي فلما أسلمت، قالت: " يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت، لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي، فيقال " يا قاتل أمه "، فقلت: " لا تفعلي يا أمه؛ فإني لا أدع ديني هذا لشيء "، فمكثت يوماً وليلة لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوماً وليلة أخرى لم تأكل فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل فأصبحت قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت: " يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مئة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني لشيء، فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي "، فأكلت "تفسير ابن كثير(3/446)
  = بلال بن رباح– رضي الله عنه - عَبد عند أُميه بن خلف كان يأمر الصبيان أن يضعوا حبلا حول رقبته، ويجره الصبيان نحو جبال مكة يجوعه ويعطشه أميه ثم يضعه على الأرض الحارة، ثم يضع صخرة
على صدره يكاد يموت وهو يقول أحدٌ أحد .. أحدٌ أحد– رضي الله عنه -  بل كان أميه يقولله يا بلال لأزال بك هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتؤمن بالات والعُزى فيرد عليه بلال ويقول : والله لو كنت
أعلم كلمة أغيظُ منها لقلتها أحدٌ أحد .. أحدٌ أحد
قال تعالى: {أَحَسِبَ الْنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوَا أَنْ يَقُوْلُوْا أَمْنَا وَهُمْ لَا يُفْتَنُوْنَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الْلَّهُ الَّذِيْنَ صَدَقُوْا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِيْنَ}
= شاب صغير اسمه خَباب بن الأرتْ- رضي الله عنه -   كان حداد أمرت مولاته أن يضربوه ضربا شديدا، فتؤتي بالجمر ( الفحم المشتعل ) وتنزع ثيابه عن ظهره ثم يوضع ظهره على الجمر الحار حتى شحم ظهره
ولما ذاب أطفأ النار، هذا الشاب الصغير الذي لم يتجاوز الثامنة عشر من العمر
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِيْنَ فَتَنُوْا الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوْبُوْا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيْقِ}
 =عمار بن ياسر أبوه ياسر وأمه سميه بنت الخياط كانا كبيرن في السن وبالرغم من ذلك لا رحمة بهم يمر بهم أبا جهل فيأمر جالدهم أضرب وزد عليهم ضربا ويمر النبي "- صلى الله عليه وسلم - صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة "
بل أن أبا جهل أخذ حربة فضرب بها قُبُلَ سمية حتى ماتت، أما أبوه فقد مات من شدة التعذيب، أما عمار فزادوا عليه ضربا حتى لم يصبر عمار،وإذا به يقول ما أرادوا في النبي - صلى الله عليه وسلم -
فإذا به يبكي عند النبي- صلى الله عليه وسلم – ويقول: " يا رسول الله لم أصبر فتكلمت فيك وقلت كذا وكذا "
فأنزل   الحق-  تبارك وتعالى - قوله: {إِلَا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيْمَانِ} 
فقال له النبي إن عادوا فَعُد .. إن عادوا فعد
 =صهيب الرومي- رضي الله عنه - كان يُضرب حتى يغمى عليه فكان يقول كلاما لا يدري ما يقول، كان مصعب بن عمير  من أترف أهل مكة وكان يأكل أفضل الطعام ويلبس أحسن اللباس، لما أسلم أمه أخذت منه كل أمواله بل طردته من البيت وصار رجلا فقيرا لا يدري ماذا يلبس وكيف يأكل"
كما كانوا يلفون بعض الصحابة في إهاب الإبل والبقر ثم يلقونه في حر الرمضاء، ويلبسون بعضًا آخر درعًا من الحديد ثم يلقونه على صخرة ملتهبة.
- عن محمد بن إسحاق قال: حدثني يحيى بن عروة بن الزبير بن العوام، عن أبيه قال: كان أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود، اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: " والله ما سمعت قريش بهذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهم ؟ "، فقال عبد الله بن مسعود: " أنا "، قالوا: " إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة تمنعه من القوم إن آذوه "، فقال: " دعوني؛ فإن الله عز وجل سيمنعني "، فغدا عبد الله حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام، فقال رافعاً صوته: بسم الله الرحمن الرحيم " الرحمن علم القرآنفاستقبلها، فقرأها، فتأملوا، فجعلوا يقولون: " ما يقول ابن أم عبد ؟! "، قالوا: " إنه يتلو بعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم !! "، فقاموا فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه، فقالوا: " هذا الذي خشينا عليك "، فقال: " ما كان أعداء الله قط أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً "،قالوا: " حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون ".  سيرة ابن إسحاق  (2/166
 (ج) الهجرة للحبشة:
- لما رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعنت قريش واستمرارها في تعذيب أصحابه، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وكان قد علم أن ملكها عادل لا يظلم عنده أحد فخرج المسلمون حتى نزلوا بالحبشة فأكرمهم النجاشي وأمنهم، وكان أول من هاجر من المسلمين عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت الرسول - صلى الله عليه وسلم-  وتبعه جمع من الصحابة، وكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة سنة خمسة من بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم- وعدد الذين هاجروا فيها اثني عشر رجلا وأربع نسوة.
 وأما الثانية، فكان عدد الذين هاجروا فيها ثلاثة وثمانون رجلا، وثمان عشرة امرأة مع أبنائهم، وسببها أن المهاجرين أول ما سمعوا بإسلام قريش، فعاد بعضهم، ومنهم عثمان بن عفان وزوجته رقية، فلم يجدوا قريشا أسلمت، ووجدوا المسلمين في بلاء شديد، فهاجروا مرة أخرى، ومعهم هذا العدد الكبير من المؤمنين.
وقد أرسلت قريش في أثرهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، بهدايا إلى النجاشي ليرد المسلمين فأبى النجاشي وأعطاهم الأمان في أرضه وأقرهم على دينهم ورد رسل قريش لم ينالوا شيئا
 (ح) الاستهزاء والسخرية:
- أطلقوا عليه - الله صلى الله عليه وسلم - اسم مذمما بدل محمدا فاستشاط صحابته وأرادوا الفتك بالكافرين فهدأهم إمام الأنبياء الله-صلى الله عليه وسلم - وامتص غضبهم وقال لهم ألا تعجبون كيف يصرف الله عنى شتم قريش ولعنهم؟!يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا "محمد" .
- قال ابن إسحاق لما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك
- أنهم قاموا بالضحك والنكات بصوت عالي عليه -  صلى الله عليه وسلم - وهو يطوف حول البيت وتركهم - الله صلى الله عليه وسلم - شوطا تلو شوط لكن عندما ارتفع صوتهم إلى فوق المحتمل فتوقف وذهب إليهم وقال لهم بصوت كالرعد " تعرفون يا معشر قريش لو لم تنتهوا لقد جئتكم بالذبح " فقالوا له امض بسلام يا أبا القاسم ما
عرفناك إلا حليما
- حاولوا الإيذاء النفسي للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بعد موت ساحرة قلبه أمنا "خديجة" وعمه أبو طالب"
 حيث أنهم تأمروا عليه فبينما كان -   صلى الله عليه وسلم - يصلى عند الكعبة استغلوا سجوده ووضعوا له سلا جازور(أمعاء
جمل) فلم يستطيع الرفع من السجود لأنه لو رفع لأتسخ جسمه وملابسه بهذه القاذورات فظل ساجدا إلى أن علمت ابنته فاطمة بما حدث له وجاءت مهرولة فأزالت هذه القاذورات عن أبيها وهى تبكى ثم نهرتهم
- قالوا عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أبتر لأن جميع أبنائه الصبية ماتوا وهم صغار ليس معه إلا البنات أي أن نسله سينقطع بمجرد موته وسوف تموت معه رسالته كانوا بذلك يمتهنوا حق أمنا "خديجة" لأنها لم يعد لديها القدرة على الإنجاب
لتجاوزها الخمسين من العمر.. وحتى بناته رقيه وأم كلثوم طلقا من عتبة وعتيبة أبناء عمه أبو لهب بعد قوله لأبنائه: رأسي من رأسكم حرام إن لم تطلقا بنات محمد. فطلقوهما وذلك قبل الدخول بهم وقبل تحريم الزواج من الكفار
- وكان عند مروره – صلى الله عليه وسلم - بدروب مكة يتوارى له الكفار ويفاجأوه بنثر الرمال والتراب بوجهه ، بكميات ضخمه إلى أن يمتليء جسده الشريف وتعفر ملابسه بتلك الرمال .
(د) الحصار والتجويع والقتل:
- تمت محاصرته – صلى الله عليه وسلم - في شعب أبى طالب بمكة بتحريض من بطون قريش الكافرة عقابا للمسلمين الذين
اعتنقوا الإسلام وتم إقرار ذلك في صحيفة طاغية وعلقت عند الكعبة فمن بنودها:  أنه لا خروج من هذا السجن المميت إلا في أيام الحج، وحتى الوفود الوافدة أيام الحج لا بيع فيها ولا شراء لبضاعة المحاصرين في الشعب وقد ترتب على بقائهم بلا طعام أو شراب وكان – صلى الله عليه وسلم - يتنقل كل يوم بين خيم الشعب خوف عليه من الاغتيال وكان
– صلى الله عليه وسلم - لا يأكل إلا مما يواريه "بلال بن رباح" من غذاء تحت إبطيه وهذا الحصار ظل مثابة الثلاث سنوات.
-  لما أسلم عقبة بن أبي مُعَيط  أو غيره من الأشقياء وهو صاحب أبو جهل وذهب يخبره أنه دخل في الإسلام..فإذا بأبي جهل يخيره ما بين صداقته إياه وما بين إسلامه
وللأسف! اختار صداقة هذا الكافر عن الإسلام وارتد بعد ما أسلم
فيوم القيامة سيتذكر كل ظالم ظلم نفسه وصاحب قرين السوء وفضّله عن طريق الله وعن الاستقامة ويعض على يديه ندما
يقول الله عز وجل في سورة الفرقان:
"وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ( 27 ) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا ( 28 )لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا (29 ) "
- قبل الهجرة إلى المدينة المنورة اجتمع زعماء قريش ودارت نقاشاتهم  حول النبي – صلى الله عليه وسلم – حول ثلاثة حلول للخلاص منه ومن دعوته:
فمنهم منْ قال:  بنفي الرسول– صلى الله عليه وسلم –  خارج مكة حفظاً لمصالح الكفار في مكة
ومنهم منْ قال: بحبسه– صلى الله عليه وسلم –  للحيلولة دون اتصاله بالناس والمسلمين
ومنهم منْ قال:  بقتله– صلى الله عليه وسلم – اطّلع الرسول- صلى الله عليه وسلم- على مؤامرتهم بوحي الهي فأمر الإمام علي- رضي الله عنه-  أن ينام في فراشه آنذاك، وخرج بشكل معجز من بيته قاصداً يثرب (المدينة)، إلاّ أنه تحرك خلاف اتجاه وطريق المدينة لخداع المشركين، وبعد أن اطلع المشركون على تملُّص الرسول– صلى الله عليه وسلم –  قاموا بتعقيبه وتتبع خطواته، لكنَّ الله شاء بقدرته أن يصل الرسول المدينة بسلامة ليقيم أول حكومة إسلامية زادت من قدرة المسلمين وشوكتهم
(ع) المواجهة العسكرية:
- معركة (بدر) البداية: لما كان يوم بدر ، نظر رسول الله - صلى الله عليه - وسلم إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا . فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة . ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: " اللهم ! أنجز لي ما وعدتني . اللهم ! آت ما وعدتني . اللهم ! إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" فما زال يهتف بربه ، مادا يديه ، مستقبل القبلة ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه . فأتاه أبو بكر . فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه . ثم التزمه من ورائه . وقاليا نبي الله ! كذاك مناشدتك ربك . فإنه سينجز لك ما وعدكفأنزل الله عز وجل : {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} سورة: الأنفال:9   فأمده الله بالملائكة 
- معركة أُحد: عندما كسرت رباعية – صلى الله عليه وسلم – في غزوة" أحد" نتيجة لحفر إحدى الكفار حفرة ليقع فيها – صلى الله عليه وسلم –
فعلقت أسنان الخوذة المدببة في وجهه، فجاء أحد الصحاب وخلعها بأسنانه فانفجرت الدماء من وجه الوسيم القسيم – صلى الله عليه وسلم –
فعندها جاء على بن أبى طالب وكوى وجهه – صلى الله عليه وسلم – بالنار ليوقف الدماء ،وكان بنفس المعركة أصيب – صلى الله عليه وسلم – بالشقيقة "الصداع النصفي" نتيجة لضرب أحد الكفار له بالسيف على الخوذة وهو يرتديها مما سيكون سببا بعد ذلك لوجود ألام مبرحه بعد ذلك .
- معركة الأحزاب هي الذروة
كان أول ما فكر فيها زعماء بني النضير الذين خرجوا إلى خيبر ثم اتصلوا بقريش والقبائل الأخرى للثأر لأنفسهم والطمع في العودة إلى ديارهم وأملاكهم في المدينة. فخرج وفد منهم إلى مكة ، منهم : سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن أبي الحقيق النضريون ، وهوذة بن قيس وأبو عمار الوائليان ، في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل ، فدعوا قريشاً إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعدهم بالقتال معهم ، حتى يستأصلوه ، وأفتوهم بأن دينهم خير من دين محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنهم أولى بالحق منهم ، وفيهم أنزل الله تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ).
ثم اتجهوا بعد هذا إلى قبيلة غطفان النجدية الكبرى وأغروها بالتحالف معهم ومع قريش على حرب المسلمين، على أن يكون لهم نصف ثمر خيبر، إذا اشتركت معهم في الحرب، وكان وافدهم إلى غطفان كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فأجابه عيينة بن حصن الفزاري إلى ذلك.
وكتب المشركون إلى حلفائهم من بني أسد، فأقبل إليهم طلحة بن خويلد فيمن أطاعه، وخرج أبو سفيان بقريش ومن اتبعه من قبائل العرب، فنزلوا بمر الظهران، فجاءهم من أجابهم من بني سليم مدداً لهم بقيادة سفيان بن عبد شمس والد أبي الأعور وبنو مرة بقيادة الحارث بن عوف وأشجع بقيادة مسعر بن رخيلة ، فصاروا في جمع عظيم ، فهم الذين سماهم الله تعالى الأحزاب ، وذكر ابن إسحاق أن عدتهم عشرة آلاف بينما كان المسلمون ثلاثة آلاف.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمعوا له من الأمر ، استشار أصحابه ، وقد أشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق في المنطقة الوحيدة المكشوفة أمام الغزاة ، أما الجهات الأخرى فكانت كالحصن تتشابك فيها الأبنية وأشجار النخيل وتحيطها الحرات التي يصعب على الإبل والمشاة التحرك فيها.
ووافق الجميع على هذه الفكرة لعلمهم بكثرة الجموع القادمة لحربهم ، وشرعوا في حفر الخندق الذي يمتد من أجم الشيخين طرف بن حارثة شرقاً حتى المذاذ غرباً ، وكان طوله خمسة آلاف ذراع ، وعرضه تسعة أذرع ، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة. وكان على كل عشرة من المسلمين حفر أربعين ذراعاً ، والأنصار من حصن ذباب إلى جبل عبيد في الغرب.
هبت ريح هوجاء في ليلة مظلمة باردة ، فقلبت قدور المشركين واقتلعت خيامهم وأطفأت نيرانهم ودفنت رحالهم ، فما كان من أبي سفيان إلا أن ضاق بها ذرعا فنادى في الأحزاب بالرحيل. وكانت هذه الريح من جنود الله الذين أرسلهم على المشركين ، وفي ذلك يقول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيرا)
وختم الله هذا الامتحان الرهيب بهذه النهاية السعيدة ، وجنب المسلمين شر القتال ، قال تعالى معلقا على هذه الخاتمة : ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خير وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا). وكانت هذه الخاتمة استجابة لضراعة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله أثناء محنة الحصار : (اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم).
سأل رجل الشافعي، فقال: " يا أبا عبد الله أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلي؟ "، فقال الشافعي: " لا يمكن حتى يبتلي؛ فإن الله ابتلي نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة "..  الفوائد (ص208)
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: " ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تعتور الأمراض والأكدار، ولم يضيق العيش على الأنبياء والأخيار، ولقد لزق بهم البلاء، وعدموا الراحة، فآدم يُعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا، ونوح يبكي ثلاثمائة عام، وإبراهيم يُكابد النار وذبح الولد، ويعقوب يبكي حتى ذهب البصر، وموسى يُقاسي فرعون، ويلقى من قومه المحن، وعيسى لا مأوى له إلا البر في العيش الضنك، ومحمد صلى الله عليه وسلم يُصابر الفقر، وقذف الزوجة، وقتل من يحبه ". الثبات عند الممات (1/26)
ثانيا: فتح مكة ورد الإساءة بالإحسان:
لقد ضرب المسلمون بقيادة الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – أروع الأمثلة في مكارم الأخلاق، حتى أنه يمكننا القول بأن فتح مكة، كان فتح أخلاق ورحمة، قلما نجد في تاريخ البشر فتحًا يضاهي فتح مكة في روعة أخلاقياته، وسمو العفو في طيات أحداثه،فهو يوم نُصرة المظلوم، ويوم الوفاء والبر، ويوم عز مكة، ويوم التمكين .......
 هذه هي مكة التي خرج منها الرسول ليلاً، فها هو يعود إليها نهارًا .. وخرج منها خُفية، فها هو يعود إليها جهارًا .. وخرج منها مُضطهدًا، فها هو يعود إليها فاتحًا منتصرًا.
وليس أحب إلى الإنسان المهاجر من أن يعود إلى وطنه ومرتع صباه، بعد أن أخرج منها إخراجًا .. فلا عجب أن قرت عين رسول الله بالفتح، واستمع في سرور إلى عبد الله بن أم مكتوم، وهو ينشد بين يديه حين دخل مكة:
يا حبذا مكة من وادي *** أرض بها أهلي وعوادي
أرض بها أمشي بلا هادي *** أرض بها ترسخ أوتادي  
ورغم كل هذا الفرح وتلك السعادة: فلم نسمع يوم الفتح؛ أن رجلاً مسلمًا هتك عرض امرأة، أو سرق شملة، أو هدم بيتًا، أو أفسد زرعًا، أو قتل ظلمًا، أو فزّع طفلاً. كانوا - رضي الله عنهم – بل آثر جند المسلمين الخلق الكريم فكانوا  يتحرك بين الشوارع والأزقة، أو في  أكناف مكة .. في حكمة، ينشرون العدل والحق، وينتشر الإسلام بفضل أخلاقهم انتشار أشعة الشمس، أو فوحان المسك، وترى الواحد منهم - أي من هؤلاء الصحابة الكرام يوم الفتح - كالليث في السكة، فقد فر منه المجرمون، وأمن به الجالس في كسر بيته، والثاوي في بيت ربه.
ولما لا وقائدهم – صلى الله عليه وسلم -   قد دخل مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح مُرجِّعًا، وقد حنى رأسه تواضعا لله، حتى قال أنس : " دخل رسول الله مكة يوم الفتح، وبطنه على راحلته متخشعًا"  .
العفو عن ذا الفضل إذا أخطئ و ذل:
فهذا حاطب  بن أبي بلتعة: قد أخطئ وذل فأرسل إلي قريش  كتابًا يخبرهم فيه بمقدم جيش المسلمين، وأرسل هذا الكتاب إليهم مع " مُطربة " تجوب بين القبائل تغني، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إثر هذه المغنية، وتم مصادرة خطاب حاطب، ورُفع الأمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – لينظر في أمر حاطب المقر بذنبه حيث  معترفا -:
" يَا رَسُولَ اللَّهِ! لا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ .. كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ " [البخاري: (3939)]
ورغم أن مبررات حاطب كلها غير مقنعة إلا  أن رسول الله حكم عليه بالعفو! لماذا؟!
لأن حاطبًا قد شهد بدرًا، وأن الله قد تاب على حاطب، فقال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وحاشا أن يُكذب الله.
ولقد أَكلتْ هذه الفعلة الشنعاء قلبَ عمر - فأراد أن يستأذن رسول الله في قتل حاطب -فقال: " يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ".
فَقَالَ: " إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا! وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا .. فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ! " ..
فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ:
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ إِلَى قَوْلِهِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ " [البخاري: (3939)].
وفي عفوه - صلى الله عليه وسلم - عن حاطب، يدل على أهمية العفو عن أصحاب السبق والفضل إذا ما وقعوا في خطيئة أو ذلت أقدامهم في مصيبة 
تواضع النبي – صلى الله عليه وسلم -
لقد دخل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، شاخص الطرف، باسط الكف، شاكرًا حامدًا ربه، خفيض الرأس، معتمًا بعمامة سوداء، وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل .ويلهج صوته بالقرآن، قارئَا سورة الفتح، ولأول مرة، ترى الدنيا فاتحًا ينتصر على أعدائه، وتدين له عاصمة بلاده، يدخلها في مثل هذا التواضع والإخبات والخشوع لله رب العالمين.
والآن تعالوا بنا نرى ماذا فعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – بمنْ أذاقوهم كل صنوف وألوان العذاب والاضطهاد.
حظر الشعارات والهتافات غير الأخلاقية:
وفي نشوة الفتح، وفرحة النصر، صاح قائد الأنصار سعد بن عبادة: " الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ! الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ! "
فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم – بعد أن اشتكى له أبو سفيان بن حرب: "كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ " [صحيح البخاري (3944)]
وأمر بالراية - راية الأنصار - أن تؤخذ من سعد بن عبادة كالتأديب له، ويقال: إنها دفعت إلى ابنه قيس بن سعد. [ابن كثير: 3/ 559].
وفيه، دلالة على حظر فحش القول وهُجره في الشعارات والهتافات، خاصة في المؤتمرات والتظاهرات، فليس من أخلاقنا، أن نتخلق بأخلاق الغوغاء ممن يتهفون بأفظع الهجاء. فإذا هتفنا أو شعِرنا أو نَظَمْنا الشعارات، أو نثرنا الأسجاع؛ في تظاهرة أو مؤتمر، فإنما يكون بأطايب الكلام، وبأحاسن الألفاظ، فديننا دين مكارم الأخلاق. والله يكره الفاحش البذيء، واللعان الطعان.
البِرٍ والوفاء فلا ظلم ولا عدوان:
جاء علي بن أبي طالب، يطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع له شرف الحجابة مع السقاية، وقد كان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة، وقد طلب النبي منه تسليم المفتاح ليصلي في جوف الكعبة، ثم رده إليه قائلاً:" هَاكَ مِفْتَاحَك يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرّ وَوَفَاءٍ خذوها خالدة تالدة إلى يوم القيامة، فهي إلى الآن بيد ولد شيبة بن عثمان بن طلحة. " [ابن هشام 2/ 412]
 كان إعلاء الرسول – صلى الله عليه وسلم - لقيم البر الوفاء أولى من الاستئثار بمفتاح الكعبة، ولم يكن من شيم الفاتحين الإسلاميين سلب الأملاك وكرائم الأموال ونفائس الآثار؛ بل إن ذلك من شأن الانقلابيين الفاسدين الذي إذا وصلوا إلى سُدة الحُكم بالقهر والجبر فأكلوا كل شيء عنوة، قصور ومجوهرات، ومال وعقارات- كما فعل أصحاب الثورات النكدة السوداء، حيث يتحول فريق الانقلاب من أبطال كفاح ونضال، إلى لصوص كبار، ومعربدين فجار، وخونة غَّدار
العفو عند المقدرة:
لما انتهى تطهير البيت من الأصنام والصور، وقف على باب الكعبة، وقريش تنظر ماذا يصنع، فقال:" لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. إلا كل مأثرة أو مال فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش، إن الله قد أذهبَ عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء: الناس من آدم، وآدم من تراب( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللهِ أتقاكم إن الله عليم خبير )يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ «قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال:» فإني أقول كما قال يوسف لإخوته:( لا تثريب عليكم اليوم ) اذهبوا فأنتم الطلقاء. "
وقال: " لا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " [مسلم: (3334)].
ماذا قال المستشرقون عن هذا العفو من الرسول – صلى الله عليه وسلم 
- واشنجتون ايرفنج
"كانت تصرفات الرسول [صلى الله عليه وسلم] في [أعقاب فتح] مكة تدل على أنه نبي مرسل لا على أنه قائد مظفر. فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه برغم أنه أصبح في مركز قوي. ولكنه توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو" [واشنجتون ايرفنج: حياة محمد 72.].
-إميل در منغم:
"فقد برهن [محمد ] في انتصاره النهائي، على عظمة نفسية؛ قلَّ أن يوجد لها مثال في التاريخ؛ إذ أمر جنوده أن يعفوا عن الضعفاء والمسنين والأطفال والنساء، وحذرهم أن يهدموا البيوت، أو يسلبوا التجار، أو أن يقطعوا الأشجار المثمرة، وأمرهم ألا يجردوا السيوف إلا في حال الضرورة القاهرة، بل رأيناه يؤنب بعض قواده ويصلح أخطاءهم إصلاحاً مادياً ويقول لهم: إن نفساً واحدة خير من أكثر الفتوح ثراء! " [انظر: بشرى زخاري ميخائيل: محمد رسول الله هكذا بشرت به الأناجيل، ص50].
العم وابن العم وابن العمة:
لمّا كان بالجُحفة أنه لقيَ: عمه العباس بأهله وعياله مهاجراً مسلماً لله جل وعلا، ففرح النبي بعمه العباس فرحاً شديداً، ولقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم،ولقيه ابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما النبي عليه الصلاة والسلام لشدة ما لقي منهما من الأذى، ومرير ولاذع الهجاء في مكة المكرمة.
فقالت أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك. إلا أن النبي قد أعرض عنهما صلى الله عليه وسلم، فذهب أبو سفيان بن الحارث إلى علي بن أبي طالب واستشاره ماذا يفعل؟!
قال له: يا أبا سفيان! اذهب إلى رسول الله من قبل وجهه، من بين يديه، وقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فإن رسول الله لا يقبل أن يكون أحد أحسن منه قولاً، وأخذ أبو سفيان النصيحة الغالية من علي رضي الله عنه، وانطلق مسرعاً إلى رسول الله بين يديه من قبل وجهه، وقال: {تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين}فنظر إليه النبي قائلاً: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) والحديث رواه ابن جرير الطبري، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الإمام الذهب
الحرص على الفتح دون قتال أو إراقة للدماء:
وكان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من معسكر المسلمين بمر الظهران راكباً بغلة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليُخبر قريشاً بالجيش العظيم الذي جاء لقتالها، والذي لا قبل لها به، حتى يؤثر في معنوياتها ويضطرها على التسليم دون قتال، فيحقن بذلك دماءها ويؤمن لها صلحاً شريفاً ويخلصها من معركة خاسرة معروفة النتائج سلفاً، فسمع وهو في طريقه محاورة أبي سفيان وبديل بن ورقة، فعرف العباس صوت أبي سفيان، فناداه وأخبره بوصول جيش المسلمين ونصحه بأن يلجأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ينظر في أمره قبل أن يدخل الجيش فاتحاً صباح غد، فيحيق به وبقومه ما يستحقونه من عقاب.
وأردف العباسُ أبا سفيان على بغلة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجّها نحو معسكر المسلمين، فلما وصلا إلى المعسكر ودخلاه أخذا يمران بنيران الجيش في طريقهما إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مرّا ينار عمر بن الخطاب  ونظر عمر إلى أبي سفيان، وقال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج الفاروق يشتد إلى رسول الله وسابقه العباس على البغلة، فدخل العباس ودخل عمر بعده، واستأذن عمر ضرب عنق أبي سفيان، فقال العباس: مهلا يا عمر، فوالله لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، لكنه من بني عبد مناف، فقال عمر: مهلا فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب، لأن إسلامك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمه أن يستصحب أبا سفيان إلى خيمته، ثم يحضره إليه صباح غد، فلما كان الصباح وجيء بأبي سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسلمَ ليحقن دمه
 وعندما جاء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم يأن لك بأن تعلم أن لا إله إلا الله»، فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي ما أحلمك، وما أكرمك وأوصلك، أما هذه فإن في النفس منها شيئا حتى الآن، فقال له العباس: أسلم قبل أن تضرب عنقك، فأسلم، وأعلم العباس أن أبا سفيان يحب الفخر، فقال رسول الله صلى عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فكان هذا منه أمانا لكل من لم يقاتل من أهل مكة.
العفو عن جاهلية البعض من أهل قريش
ورُوي أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة في بعض أيام الفتح ومعه بلال، وحان وقت صلاة الظهر، فأمر بلالاً أن يؤذن، فأذَّن للصَّلاة.
وكان بفناء الكعبة من قريش: "أبو سفيان بن حرب، وعتَّاب بن أَسِيد، والحارث بن هشام".
فقال عتَّاب بن أَسيد: "لقد أكرم الله أَسيدًا (أي: أباه) ألا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه" كبر جاهلي عن أن يؤذن حبشي على الكعبة.
فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنَّه مُحِقٌّ لاتَّبعته.
فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلَّمت لأخبرت عني هذه الحصى.
فخرج عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((قد علِمْتُ الذي قلتُمْ، ثم ذكر ذلك لهم)).
فقال الحارث وعتَّاب: نشهد أنَّك رسول الله، والله ما اطَّلع على هذا أحد كان معنا، فنقول: أخبرك.
أمّ حكيم تشفع لزوجها عكرمة بن أبي جهل:
ولما أهدر الرسول - صلى الله عليه وسلم - دم عكرمة بن أبي جهل، فر قاصدًا اليمن، حتى وصل إليها.وكانت امرأته "أم حكيم بنت الحارث" قد أسلمت، فطلبت الأمان لزوجها عكرمة بن أبي جهل، من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأمنه.فلحقت به إلى اليمن، فجاءت به، فأسلم، وأقرهما على النكاح الأول.
ورُوي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما رآه مقبلا عليه، نهض قائما وقال له: مرحبا بمن جاء مسلمًا مهاجرًا، ثم سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر له مما كان منه، فاستغفر له.
أمّ هانئ تُجير رجلين من أهل زوجها:
قالت "أم هانئ هند ابنة أبي طالب" أخت علي - رضي الله عنهما: لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعلى مكة، فرَّ إليَّ رجلانِ من أحمائي، من بني مخزوم، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي.
فدخل عليَ.ّ عليُّ بن أبي طالب أخي، فقال: "والله لأقتلنَّهُما".
فأغلقت عليْهِما باب بيتي، ثم جئتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة إنَّ فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشَّح به، ثُمَّ صلَّى ثَمانيَ ركعات من الضحى، ثم انصرف إلي، فقال: ((مرحبًا وأهلاً يا أم هانئ، ما جاء بك؟))
فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي فقال: ((قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت، فلا يقتلهما)).
قال ابن هشام: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة [سيرة ابن هشام17].
عُمير بن وهب يستشفع لصفوان بن أميَّة:
وكان "صفوان بن أمية بن خلف" من رؤوس الذين حملوا أشد العداء للرسول، وكان قد دفع عمير بن وهب لقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة بعد بدر، وكشف الرسول - صلى الله عليه وسلم- لعُمير تآمره مع أمية، مع أنه لم يكن معهما أحد فأسلم.
وكان قد حرَّض أوباش قريش على قتال المسلمين يوم الفتح، فرأى أنه مقتول مهدور الدم،فخرج فارًّا يُريد جدَّة ليركب منها إلى اليمن.
فقال عمير بن وهب: يا نَبيَّ الله، إنَّ صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربًا منك، ليقذف نفسه بالبحر، فأمنه صلّى الله عليك.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هو آمن)).
فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمامته التي كان متعممًا بها معتجرًا إذ دخل مكة فاتحًا.
فخرج عمير بها وانطلق حتى أدركه وهو يريد أن يركب في البحر، فقال له: يا صفوان، فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جئتك به.
قال صفوان: ويحك، اغرب عني فلا تكلمني، فإنَّك كذاب.
قال عمير: فداك أبي وأمي، أفضل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، ابن عمك، عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك.
قال صفوان: إني أخاف على نفسي.
قال عمير: هو أحلم من ذاك وأكرم.
فرجع صفوان مع عمير، فلمَّا وقفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال صفوان: إن هذا يزعم أنك أمنتني.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صدق)).
قال صفوان: فاجعلني فيه بالخيار شهرين.
قال الرسول له: ((أنت بالخيار فيه أربعة أشهر)).
ثم أسلم "صفوان بن أمية" وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتألَّف قلبه، ويعطيه مع مَن يعطي من المؤلفة قلوبهم، وكان نصيبه في العطاء مع الذين بلغ نصيبهم مائة من الإبل، وكانت زوجته "فاختة بنت الوليد" قد أسلمت، فلمَّا أسلم صفوان أقرَّها الرسول عنده على النكاح الأول.
العفو عن فضالة بن عمير بن الملوح
أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضالة؟ قال نعم فضالة يا رسول الله، قال: «ماذا كنت تحدث نفسك؟»، قال لا شيء، كنت أذكر اللهو، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «أستغفر الله»، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه. قال فضالة فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها فقالت: هلم إلى الحديث؟ فقلت :لا.
هذا ما فعله الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – مع أهل مكة اللذين أذاقوا الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصحبه كل صنوف وألوان العذاب، حيث قابل الإساءة منهم بالإحسان.
العفو عن سُهيل بن عمرو:
كان سهيل بن عمرو من كبار زعماء قريش بل مكة، وكان من الزعماء الذين لهم تاريخ أسود وطويل مع رسول الله ، وكان من كبار السن، وله من الأولاد الكثير، وهؤلاء الأولاد معظمهم في جيش المسلمين الفاتح لمكة المكرمة، وبعد أن فتح مكة، لم يجد له عونًا من الزعماء الذين كانوا معه قبل ذلك، فقد فرُّوا أمام الجيش الإسلامي، ففرَّ هو الآخر ودخل بيته كما يقول: (فانقحمت في بيتي، وأغلقت عليَّ بابي)
ثم يقول: وأرسلتُ إلى ابني عبد الله بن سهيل -وهو من جنود الجيش الإسلامي الفاتح- أن اطلب لي جوارًا من محمد، وإني لا آمن من أن أُقتل، فليس أحد أسوأ أثرًا مني؛ فإني لقيت الرسول- صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية بما لم يلقه أحد، وكنت الذي كاتبته، مع حضوري بدرا وأحدا ضد المسلمين.
يقول سهيل بن عمرو: ذهب عبد الله بن سهيل إلى الرسول  فقال: يا رسول الله، أَمِّنْه.فقال  دون تردُّد: "نَعَمْ، هُوَ آمِنٌ بِأَمَانِ اللهِ فَلْيَظْهَرْ»!!
ثم قال لأصحابه في رُقِيٍّ عجيبٍ، وفي أدبٍ رفيعٍ:"مَنْ لَقِيَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فَلاَ يَشُدَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ فَلَعَمْرِي إِنَّ سُهَيْلاً لَهُ عَقْلٌ وشَرَفٌ، وَمَا مِثْلُ سُهَيْلٍ جَهِلَ الإِسْلامَ، لَقَدْ رَأَى مَا كَانَ يُوضَعُ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِنَافِعِ"
ثالثا: إساءة أهل ثقيف للنبي وإحسانه إليهم – صلى الله عليه وسلم –
(أ) الطائف أو ثقيف:
تُعد  الطائف ثاني أعظم مدينة في الجزيرة العربية بعد مكة، وبها قبيلة ثقيف من أهم القبائل العربية..لقد ذهب إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العام العاشر من البعثة، بعد وفاة أبي طالب، واشتداد إيذاء قريش له، ذهب   إليهم يدعوهم إلى الإسلام، ويستجير بهم من قريش، فبماذا استقبلوه؟!
لقد استقبلوه - صلى الله عليه وسلم – بكل ألوان  السخرية والاستهزاء!
بل أكثر من ذلك فلقد عامله  سادتهم بأقبح أنواع  السفاهة والحماقة، التي يندُر أن تُوجد في سادة قوم فقد قالوا له- صلى الله عليه وسلم –
 قال له عبد ياليل بن عمرو: إنه سيمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسله!!
وقال مسعود: أمَا وجد الله أحدًا غيرك؟!
وقال حبيب: والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولاً لأَنْتَ أعظم خطرًا من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كُنْتَ تَكْذِبُ على الله ما ينبغي أن أكلمك!! ابن هشام: السيرة النبوية 2/267.
ورغم كل هذا الإيذاء  مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم – عشرة أيام يدعو في الطائف، فما ترك أحدًا إلا كلَّمه في الإسلام، ورغم ذلك فقد اجتمعت المدينة بكاملها على تكذيبه، ثم قالوا له في اليوم العاشر: اخرج من بلادنا!! ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/212.
فلما عزم على الخروج ، فإذا بهم قد حرضوا وأغرَوْا به سفهاءهم وغِلْمَانَهُمْ، فَصَفُّوا أَنْفُسَهُمْ صفين خارج الطائف، وأرغموه زيدًا على المرور بين الصفين، وجعلوا يقذفونهما بالحجارة، حتى سالت الدماء من قدميه الشريفتين، وشُجَّتْ رأسُ زيد بن حارثة: ابن عبد البر: الاستيعاب 2/114، وابن الأثير: أسد الغابة 2/140، وابن حجر: الإصابة، الترجمة رقم 2885
أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم – يهرول ومعه زيد يعدوان بعيدًا عن المدينة، والسفهاء وراءهما بالسباب والحجارة، حتى أرغموهما على دخول حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، حيث دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم – فارتكن إلى الجدار يردد  الدعاء المشهور الذي يفيض ألمًا وحزنًا فقال:
"اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَانَ عَلَيَّ فَلا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ، أَوْ يَحُلُّ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ"
قال الهيثمي في المجمع 6/35: رواه الطبراني ، وأخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي 1839.
وها هو – صلى الله عليه وسلم – ينطق بكلمات تفيض بكل صنوف الألم والقهر النفسي الذي ألم به من أهل ثقيف فيقول- صلى الله عليه وسلم –:" فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ». فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ : «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»
وهذا أيضًا من أعجب مواقف التاريخ!! البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى 3059، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي من أذى المشركين والمنافقين 1795. وقرن الثعالب: هو قرن المنازل، وهو ميقات أهل نجد، وهو على مرحلتين من مكة، وأصل القرن كل جبل صغير ينقطع من جبل كبير.واللفظ هنا لمسلم.
وتمرُّ الأيام، وتظلُّ ثقيف على كفرها وعنادها بل وغيها، فلقد قاومت كثيرًا، وصدَّتْ عن سبيل الله كثيرًا، واشتركت مع هوازن في الحرب ضد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – في موقعة حنين، وانتهت الموقعة بهزيمتهم وفرارهم إلى مدينتهم الطائف، وذهب إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وحاصرها حصارًا شديدًا مُدَّةَ شهر كامل، لكنه لم يتمكَّن من فتحها؛ لمناعة حصونها وقوة مقاتليها، فقرَّر بواقعيَّة أن ينسحب ويتركها، وحزن الصحابة لذلك، وقالوا: يا رسول الله، أحرقتْنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم. قال: «اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا» الترمذي 3942، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وأحمد 14743، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده قوي على شرط مسلم.
بعد كل هذه المعاناة والتعب يكون ردُّ فعله- صلى الله عليه وسلم –: «اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا»!!نعم.. اللهم اهدِ ثقيفًا، واهدِ كل البشر، فهذا هو الرحمة المهداة، هذا معلم الناس مكارم الأخلاق.
(ب) موقف رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  من عبد ياليل بن عمرو الثقفي  
إن لثقيف صفحات ملؤها السواد في تاريخها مع الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – فقد أسأوا استقباله كما تقدم، بل وأغروا به غلمانهم والسفهاء منهم ليقذفونه – صلى الله عليه وسلم – بالحجارة حتى دميت قدماه، وعامله زعمائها وعلى رأسهم عبد ياليل بن عمرو الثقفي أسوء معاملة، ثم تحالفوا مع قبيلة هوزان لمحاربة المسلمين في معركة حنين، وحاصرهم جيش المسلمين شهرا، فلم يتمكن منهم، و دعا لهم الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم -  بعد كل هذا بالهداية رغم كل ما تقدم، ولم يؤمن أحد من ثقيف إلا القليل، بل لعلَّه لم يؤمن منهم قبل الفتح إلا الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة: ابن عبد البر: الاستيعاب 4/7، وابن الأثير: أسد الغابة 4/454، وابن حجر: الإصابة، الترجمة رقم (8179).
وقد تفاقم أمر ثقيف عندما قتلت زعيمَها عروة بن مسعود ، عندما أسلم ودعاهم إلى الإسلام، فأثَّر ذلك جدًّا في رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  . ابن عبد البر: الاستيعاب 3/176، وابن حجر: الإصابة، الترجمة رقم (5527).
ومرَّت الأيام، وفي رمضان من العام التاسع من الهجرة وجدت قبيلة ثقيف أن قوة المسلمين أصبحت هي القوة الأولى في الجزيرة العربية، وبخاصة بعد فرار الجيوش الرومانية منها في تبوك، ففكَّرت أن تأتي المدينة لتبايع على الإسلام!!
وكان واضحًا من كلامهم وترتيبهم أنهم ما جاءوا حُبًّا للإسلام، ولا اقتناعًا به، ولكن لرؤيتهم أنهم لا طاقة لهم بحرب المسلمين، ومن ثَمَّ كوَّنوا وفدًا يُحاور ويفاوض رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  . ويصل معه إلى أفضل ما يمكن أن يصلوا إليه، وجعلوا على رأس هذا الوفد «عبد ياليل بن عمرو» الزعيم القديم الذي سَخِرَ في يومٍ ما من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  سخريةً شديدة، ولكن دارت الأيام دورتها وجاء زعيم ثقيف منكسرًا أمام الرسول العظيم – صلى الله عليه وسلم -  .، الذي مُكِّن له في الأرض، وأصبح في مركز القوة.
استقبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  وفد ثقيف وعلى رأسه «عبد ياليل» خير استقبال، ولم يُذَكِّرْهُمْ بماضيهم أبدًا، ولم يقل لهم شيئًا عن سخريتهم منه يوم ذهب إليهم – صلى الله عليه وسلم -  طالبًا نصرتهم، ولم يقل: هذه بتلك، أو: اليومَ باليومِ الذي سخرتم فيه مني.. بل قابلهم – صلى الله عليه وسلم -  بالترحاب وبالبسمة وبالكرم وبالضيافة وبالهدية، بل جلس معهم يستمع لمفاوضاتهم ومقترحاتهم التي كانت في غاية السفاهة، ومع ذلك لم ينفعل عليهم، أو يغضب منهم، بل ناقشهم في هدوء، وتكلَّم معهم في رَويَّة!!
لقد طلبوا أن يُسلِموا بشروط منها: أن يأذن لهم في الربا والزنا وفي الخمر، وأن يُعْفَوْا من الصلاة، وأن تُتْرَكَ لهم اللات دون أن تُكسر"  ابن كثير: البداية والنهاية 5/33، وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/306.

لقد كانت مطالب سفيهة تدل على عدم فقهٍ لمعنى الإسلام، ومع سفاهة تلك المطالب إلا أن الرسول – صلى الله عليه وسلم -  لم يفقد أعصابه أو يتركهم، إنما أخذ يُفَسِّرُ لهم ويشرح، ورفض مطالبهم هذه في منتهى الأدب، وبأسلوب يَغْلِبُ عليه الرفق واللين، وكان يُحاورهم كل ليلة بعد صلاة العشاء، ويُكثر من الحديث معهم، وكان قد ضرب لهم قُبَّة في المسجد النبوي تكريمًا لهم، وتعظيمًا لقَدْرِهِم. ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/313.
هذا مع أنهم لم يُسلموا بعدُ..وفي نهاية الأمر، قَبِلَ وفد ثقيف بالإسلام كاملاً دون انتقاص ولا تفريط، ودخلت بعد ذلك قبيلة ثقيف في الإسلام، وكانت من أكثر الناس ثباتًا على الإسلام حتى في زمان الردة.
إخواني وبني جلدتي:
هذه هي أخلاقيات العفو والرحمة والمودة أخلاقيات خرجت من نفوس أُشربت الربانية، وشربت من كأس التربية حتى الثُمالة، إن أمثال هؤلاء الرجال ممن تربوا على التراحم فيما بينهم والتآخي والمودة والرحمة ، لحري  بهم أن يحملوا راية التمكين في الأرض، فما أعظم هذه النفوس التي ذاقت ويلات التعذيب في رمضاء مكة، حتى إذا أمكنهم الله من رقاب أعداءهم، أَعطوا العفو، وجنَّبوا البطش والقهر، فالتمكين عند هؤلاء الرجال ليست حكاية تصفية حسابات، وليست حكاية غرسا لأعواد المشانق لمن شنقوهم،ليكون  شنقًا بشنق وتنكيلاً بتنكيل، وليست قضيتهم قضية مطالَبات وتِرات، وثارات ودِيَّات، بل يعتبرون الإيذاء الذي أصابهم ما هو ضريبة التمكين، ووسام على صدورهم .
فهؤلاء الرجال لا يحملون بين جنباتهم جذوة الثأر، إنما يحملون بميامنهم شعلة القرآن، وبميامنهم الأخرى شعلة السُنة، وعلى رؤوسهم تاج الأخلاق وبين ذلك يحملون قلبًا خالصًا للرب، صادقًا في الغاية والقصد، وذلك كله لأنهم باعوا الدنيا واشتروا الآخرة، أدركوا أن سلعة الله غالية، فبذلوا في سبيل الحصول عليها كل نفيس، بذلوا الروح والجسد، و المال وراحة البال للحصول على السلعة الغالية المتمثلة في جنة الله ورضوانه.
هذا حالهم فكيف حالنا؟! ونحن ندعي بهم نقتدي، والحقيقة التي لا مجال في كشفها للكثير من العناء، أن الفرق بيننا وبينهم بمثابة الفرق بين الأرض وعنان السماء. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

http://alfahd999.blogspot.com/